المهاجرون .. مهدي عامري يكتب
مهدي عامري*| يقول الراوي ” أنا أحمد، مصري الجنسية، لكني أعيش منذ عشرين عامًا في فرنسا، وأعتبر نفسي مغربيًا حتى النخاع، لكثرة أصدقائي المتحدرين من فاس ومراكش.
وأنا أحب مشرق الأنوار وأعشق ناسه الطيبين المتواضعين. أنا واحد من أولئك الذين شربوا من كأس الغربة حتى الثمالة، ثم عادوا يبحثون عن طعم الوطن في الذاكرة والوجوه. صُلتُ وجُلتُ وسافرتُ في دنيا الله، جاوزتُ الجبال وقطعتُ البحار بحثًا عن الحقيقة والصحبة، وعن القلب الذي إذا ضحك، فتحت له الدنيا ذراعيها… ووالله العظيم، وجاه النبي الحبيب، من بين كل القصص التي عشتها، تبقى هذه الأقرب إلى قلبي… ولا عجب. فهي قصة أرواح تعثرت في الحياة، ثم عادت تحاول الوقوف. وما بين الكاف والنون يكون الأمر لله من قبل ومن بعد، فلا عطاء إلا عطاؤه، ولا مدد إلا مدده، سبحانه، علَّمنا بالقلم ما لم نعلم، وجعل علمنا في الغربة وطنًا، وجهلنا في الوطن الأم غربة الغربات…
كان خريف هذا العام باردًا أكثر من المعتاد، وكانت مساءات باريس كئيبة ثقيلة على القلب كالرصاص، أو ربما أشد… يومذاك، عدتُ لأجلس مع إخوتي وأصدقائي القدامى، الذين جمعتني بهم أكثر من خمس سنوات من الدراسة بباريس، ثم فرّقتنا الحياة. التقينا مجددًا في الحي اللاتيني، حيث عبق الذكريات يفوح من كل زاوية وشبر: محلات الكباب، جدران المقاهي والمكتبات. سبحان الله… شيءٌ ما تغيّر في ملامحهم، وفي نبرة أصواتهم… هل الوطن قد غادرنا؟ أم نحن من هاجر منه دون رجعة؟
قال مجدي، وهو يحدّق في فنجان قهوته الفوّار، كالذي يبحث عن اللامعنى بين سحائب سريالية:
«رجعت إلى تونس لأجل والديَّ. قلت لنفسي: هذا أقل ما يجب. لكن البلاد يا صديقي، ما زالت تتخبط. ما بعد الربيع كان خريفًا دامسًا. الأمل هناك ضائع، والكرامة باتت ذكرى في نشرات الأخبار».
نظر إلينا عبد الهادي وقال:
«أما أنا، فقد عدتُ إلى المغرب. تزوجت، أنجبت، ووجدت عملاً، ظننت أنني عدتُ إلى حضن الوطن… لكن شتّان بين أن تُولد في بلد، وأن تنتمي إليه، فكل صباح، أشعر أني عابر سبيل، وأني لستُ البتة ابن الدار».
من جهتها، كانت مانويلا صامتة، تنظر من خلف زجاج المقهى إلى عراك بين ثلاثة سكارى… ثم ما لبثت أن تمتمت: «اخترتُ البقاء هنا في فرنسا. بوليفيا تئن تحت فساد لا يُطاق. هنا، رغم الغلاء الفاحش، والإضرابات، والاحتجاجات الاجتماعية المتواصلة منذ أزمة كوفيد، أعيش بحرية وكرامة».
وسرعان ما أطلق صديقنا طلعت ضحكته المجلجلة المعهودة، وقال وهو ينزع ساعة يده ويضعها فوق الطاولة: «تتكلمون عن الوطن، وقلوبكم تقطر حسرة وألمًا. كازاخستان في قلبي و روحي كل يوم، لكن وطني صنعته بيدي. منذ سبع سنوات أطلقت مشروعي في الترجمة هنا بباريس، عملت بجد. أتكلم ثماني لغات، وأكسب ما يكفي من المال، والحمد لله. وهكذا أشعر دون أدنى حاجة للتفلسف أني فرنسي أكثر من الفرنسيين. ألم يوصنا النبي ﷺ بالتجارة ونهانا عن الإجارة؟»
وبعد نصف ساعة من الحديث الذي لا ينتهي، بدا الملل يتسلل إلى نفسي، فصحت ساخرًا في وجوه الأعزاء: «أحمد يُكلمكم… أنصتوا يرحمكم الله! كلكم ثرثرتم بما فيه الكفاية، ولم يسمعني أحد. أتدرون أني منذ سنوات قليلة تزوجت أوكرانية من أصول مصرية؟ حلمنا ببيت وعمل في كييف. خططنا، لكن الحرب داهمتنا. لا أستطيع الرجوع إلى مصر، فالوضع الاقتصادي هناك مثل الزفت. ولا يمكننا السفر إلى أوكرانيا، لأنها أصبحت بلدًا منهارًا جراء الحرب… الحمد لله، أنا وزوجتي ظللنا هنا، فلتصمتوا جميعًا، ولتحيا فرنسا!»
أي نعم… تحيا فرنسا!!
ههه… وانفجرنا كلنا ضاحكين…
وبعد دقيقتين ساد صمت ثقيل، وخُيّل إليّ أن الكلمات معلّقة في الهواء، وأن أرواح الجالسين في المقهى تبحث عن الخلاص في مكان خارج الأمكنة، وفي زمان خارج كل زمان.
وبعد لحظات، انزاح الصمت وقلت لإخوتي وأنا أراقب كوب الشاي المنعنع الذي برد منذ القرن الماضي:
«كلكم اجتهدتم في الحديث وتوصيف تجربتكم في الغربة وأصبتم، فلكم وللمجتهدين أمثالكم أجران، كما أرشدنا إلى ذلك النبي الكريم عليه أزكى الصلاة والسلام… فرنسا يا رفاق، مثل التفاحة المهجنة، لامعة براقة، لكنها بلا طعم ولا رائحة. ربما نحن مع الزمن لن نبحث عن وطن في الأرض، بل عن مقام في الروح وفي حضرة الملكوت. أليس الوطن الحقيقي هو المكان الذي تتحرر فيه من القيود، وتحس فيه بروح الانتماء؟»
هنا يتوقف الراوي عن السرد…
وبعد عشرة أيام، يجلس وحيدًا بالمقهى في الحي اللاتيني…
ويفتح حاسوبه المحمول، ويواصل الكتابة:
«ثمة شيء عجيب غريب يتسلل إلى أعماقي… كأن صوتًا من بعيد يهمس في داخلي: كلكم غرباء في الأرض، ولقاء الله هو الانتماء، وهو اللحظة الوحيدة والحقة لليقين… لا شك أن هذه الكلمات تزلزل صدري، كما تزعزع العاصفة الهوجاء نوافذ القلب. تخيلته جالسًا أمامي… التفتُّ إلى طلعت، فوجدته ينفث دخان غليونه في السماء وهو يتأمل:
“الغربة ليست في المكان يا أحمد، بل في النفس. حين تعرف نفسك، لا تعود غريبًا. أنا لم أعد أبحث عن الهوية من زمان… لماذا؟ الهويات قاتلة يا صديقي. ولحسن الحظ أن كل كلمة وجملة أولدها من عملي بالترجمة تبني لي صروحًا وقصورًا من الحياة والمعاني”».
كم جميل كلامك يا طلعت!
و قلت لك وأنا أتخيلك يا مانويلا جالسة بقربي، تُبحلقين في وجهي الأسمر بعينيك العسليتين الفرحتين : «وهل يكفي المعنى يا مانويليتا؟»
لم تحتج دقيقة واحدة للتفكير، لأن سليلة الأمازون انطلقت نحوي كالسهم وهي تجيب: «الخوف لا ينتهي يا أحمد، وكذلك اليأس… لكن هل جرّبت يومًا أن تُصيب اليأس باليأس؟ نحن النساء نولد خائفات، ونتعلم أن نرقص فوق حبال الخوف. هنا في باريس، على الأقل، أستطيع أن أكون مانويلا، وليس إنسانة أخرى محكومة بقوانين القبيلة».
وظل خيالي جامحًا، وأنا أحسبني أراكم كلكم يا إخوتي جالسين معي على نفس الطاولة…
و اخيرا همس مجدي: «حياتي في تونس تشبه سردابًا لا نهاية له، كل شيء ساكن، كل شيء جامد ومُتكرر. حتى أحلامنا كشعب تُعاد بصيغ فاشلة. أحيانًا، أظن أني عدت فقط لأكون رفيق والديَّ في الشيخوخة… ربما هذا من رضا الوالدين… والله لست أدري… تعبت من التفكير…»
[يُتبع]