الصحافة بمهنية ورؤية إبداعية

سوسيولوجيا السكن مع الأسرة بعد الزواج:  بين سلطة الجماعة وتطلعات الاستقلال الجزء الأول

هشام بوقشوش *-يشكل الزواج في المجتمع المغربي أكثر من مجرد علاقة شرعية بين رجل وامرأة؛ إنه لحظة اندماج داخل نظام اجتماعي تقليدي تعاد فيه صياغة المكانة والأدوار ضمن شبكة عائلية موسعة. وفي هذا السياق، لا يكون قرار السكن بعد الزواج قرارا فرديا محضا، بل هو اختيار تتحكم فيه اعتبارات رمزية، واقتصادية، وثقافية، تتجاوز حدود الزوجين لتشمل الأسرة الممتدة برمتها. ومن أبرز أنماط هذا السكن ما يعرف بـالاستقرار في بيت أهل الزوج، وهي ممارسة لا تزال رائجة في العديد من المناطق المغربية، سواء بدافع العرف أو بسبب المعطيات الاقتصادية والاجتماعية.

غير أن هذا النمط السكني لا يخلو من تعقيد. فهو من جهة يقدم كصيغة للتضامن العائلي وتيسير شروط البداية الزوجية، ومن جهة أخرى ينتج فضاء مشحونا بالتوترات، حيث تتقاطع السلطة الأبوية مع الطموحات الفردية، وتتداخل الخصوصية الزوجية مع متطلبات الجماعة، ما يؤدي إلى نشوء صراعات خفية أو معلنة حول الأدوار وحدود النفوذ.

لذلك، فإن السكن مع الأسرة بعد الزواج يعد ظاهرة سوسيولوجية بالغة الأهمية، تعكس طبيعة البنية العائلية المغربية، وتضيء على التحولات الجارية في علاقة الفرد بالجماعة، وعلى صراع القيم بين التقليد والحداثة. وتطرح هذه الظاهرة تساؤلات مركزية حول مفاهيم الاستقلال، السلطة، التفاوض اليومي، والحدود بين العام والخاص، مما يجعل دراستها مدخلا لفهم ديناميات التغير الاجتماعي في المغرب المعاصر.

السكن المشترك: استمرار للمنظومة الأبوية

إنّ السكن مع الأسرة بعد الزواج لا يمكن فصله عن الهياكل السلطوية الأبوية التي تُعيد إنتاج أنماط التبعية والانضباط الرمزي داخل الأسرة المغربية. ففي هذا النمط من العيش، يواصل الأب لعب دوره كمركز للسلطة الرمزية داخل الفضاء المنزلي، في حين تصبح الأم محورًا مهيمنًا على التنظيم اليومي للحياة العائلية، بما في ذلك حياة الزوجين الجدد. ولا يقتصر الأمر على اقتسام الفضاء المادي، بل يمتد إلى اقتسام السلطة على القرارات، وإعادة توزيع أدوار النوع الاجتماعي، وضبط إيقاع الحياة الزوجية تحت أعين الجماعة العائلية.

وفقا لتحليل بيير بورديو (Bourdieu)، فإن الفضاء المنزلي ليس حياديا أو عفويا، بل يشكل ساحة لصراعات رمزية مستترة، تعاد من خلالها صياغة مواقع الهيمنة والتراتبية داخل النسق العائلي. وتبرز هذه الصراعات من خلال التوترات اليومية التي تعيشها الزوجة – لا سيما في علاقتها بالحماة – حيث يعاد إنتاج ثنائية “الكنة/الحماة” كتمظهر رمزي لتقاطع السيطرة النسوية التقليدية مع موقع الوافدة الجديدة، التي تبقى غالبا محصورة في دور الضيفة الدائمة، تفتقر إلى الاعتراف الكامل بشرعية وجودها كـسيدة بيت.

وبهذا المعنى، فإن الفضاء السكني المشترك لا يعد مجرد ترتيبات عائلية، بل واجهة لصراعات اجتماعية خفية بين الانتماء الفردي والانضواء الجماعي، بين السعي إلى الاستقلال والامتثال للنسق الأبوي، وبين الحميمي والعمومي داخل الحياة الزوجية المعاصرة في السياق المغربي.

تولد تجربة السكن مع الأسرة بعد الزواج توترا بنيويا عميقا، نابعا من تداخل الأجيال، وتنازع الأدوار، وانعدام الخصوصية. ففي هذا السياق، تعيش الزوجة غالبا شعورا دائما بأنها خاضعة لرقابة غير مرئية؛ حيث ترصد خطواتها، وتؤول كلماتها، وتتخذ قرارات تتعلّق بها دون إشراكها. هذه الرقابة الرمزية، حتى وإن لم تكن معلنة، تنتج شعورا مستمرا بالهشاشة، وتقوض ثقتها بمكانتها داخل الفضاء العائلي.

من جهة أخرى، يجد الزوج نفسه موزعا بين ولائه لأسرته الأصلية وواجبه في حماية استقلال حياته الزوجية، ما يدخله في ازدواجية وجدانية وسلوكية. فهو مطالب، ضمنيا، بأن يرضي سلطة الوالدين، وفي الوقت نفسه، أن يحمي خصوصية العلاقة التي تربطه بزوجته، الأمر الذي قد يتحول إلى صراع صامت حول من يملك القرار داخل البيت.

أما الأطفال الذين ينشؤون داخل هذا الفضاء المركب، فإنهم يصبحون شهودا على صراعات رمزية خفية، ويعيشون في أجواء مشحونة بالتوترات غير المعلنة، حيث تختلط حدود العائلي بـالزوجي، وتنعدم الفواصل بين سلطة الأجداد ودور الأبوين. وهو ما قد يربك عملية بناء الهوية النفسية والاجتماعية لديهم، وينتج نماذج غير مستقرة من التمثلات العائلية، والسلطة، والانتماء.

الاحتواء والتكافل: الوجه الآخر للعملة

ورغم ما تحمله تجربة السكن مع الأسرة من توترات بنيوية ومفارقات رمزية، فإنها لا تخلو من أبعاد إيجابية بالغة الأهمية، خصوصًا في السياقات التي تتسم بهشاشة البنية الاقتصادية والاجتماعية. ففي كثير من الحالات، تشكل الأسرة الممتدة شبكة أمان اقتصادي وعاطفي، تسهم في تخفيف أعباء الحياة اليومية عن الزوجين الجدد، من خلال توفير الدعم المالي، ورعاية الأطفال، والمساندة في لحظات المرض أو الأزمات الطارئة.

بل إن هذا النموذج السكني قد يلعب دورا مرحليا في تيسير انتقال الأزواج نحو الاستقلال التام لاحقا، خاصة في ظل صعوبات الولوج إلى السكن الفردي الناتجة عن ارتفاع الأسعار، وضعف التغطية السكنية، وهشاشة سوق الشغل، لا سيما بالنسبة للطبقات الوسطى والفقيرة.

هذا الوجه الإيجابي لا ينبغي اختزاله في بعده النفعي، بل يعكس منظومة ثقافية قائمة على التضامن، والمشترك العائلي، والروابط القرابية، التي ما تزال تلعب دورا حيويا في المجتمعات التي لم تستكمل بعد مسار التحول نحو الفردانية الحديثة. فالسكن المشترك، رغم ما يطرحه من تحديات، يظل في كثير من الأحيان خيارا عقلانيا وسوسيولوجيا متكيفا مع خصوصيات البنية الاجتماعية المغربية.

د. هشام بوقشوش / باحث في علم الاجتماع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.