المغرب المؤسساتي والدستوري: نموذج الحوار القانوني والتواصلي بين وزارة العدل والمحكمة الدستورية
المشرع اعتبر أن تبليغ الاستدعاء لأحد الساكنين مع الطرف المعني كافٍ قانونيا، حتى وإن لم يُسلم إليه شخصيا. لكن المحكمة قالت: هذا لا يضمن علم المعني بالأمر فعليا، وبالتالي قد يُحكم عليه دون أن يعرف أن هناك قضية مرفوعة ضده.
ذ. منير الكماني
مهندس مدني، كاتب في
مجلة ناطقة بالألمــــانية
ألمانيا|في لحظة فارقة من مسار العدالة بالمغرب، وقفت المحكمة الدستورية لتقول: “ليس كل ما يمر تحت غطاء القانون دستوريا”، وأعلنت بحزم أن بعض المقتضيات، وإن صيغت بلغة قانونية، تمس بحقوق الأفراد الجوهرية، وتخرق المبادئ الدستورية العليا.
وهكذا جاء قرارها الصادر في 4 غشت 2025 ليعيد ترتيب الأمور، لا بإلغاء القانون، بل بتقويم انحرافاته، وتطهيره من الثغرات التي تفتح أبوابا للظلم.
الأحكام القانونية التي وقفت عندها المحكمة الدستورية بعين النقد، مقررة عدم دستوريتها، مُبيّنة النصوص الأصلية كما صيغت، وموضحة أوجه الخلل التي تضمّنتها. ويرافق ذلك تفسير وأمثلة واقعية، تُظهر كيف تتسلل مظاهر الحيف من خلال تفاصيل صغيرة، وكيف يتدخل الدستور، لا كوثيقة صامتة، بل كسلطة عليا تُعيد للتقنين روحه، وللعدالة توازنها:
●المادة 84 (الفقرة الرابعة)الفقرة : “يُسلم الاستدعاء في موطن أو محل إقامة الطرف، إلى أحد أقاربه أو خدمه أو أي شخص آخر يسكن معه…”
تفسير :المشرع اعتبر أن تبليغ الاستدعاء لأحد الساكنين مع الطرف المعني كافٍ قانونيا، حتى وإن لم يُسلم إليه شخصيا. لكن المحكمة قالت: هذا لا يضمن علم المعني بالأمر فعليا، وبالتالي قد يُحكم عليه دون أن يعرف أن هناك قضية مرفوعة ضده.
●الفصل 120 من الدستور:“لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي الدفاع عن نفسه…”
مثال :تصوّر أن سيدةً رفعت دعوى طلاق ضد زوجها الغائب، وبلّغت الاستدعاء لأخيه الذي يقطن معه، لكنه لم يخبره.
تمت الجلسة، وصدر الحكم.
الزوج لم يكن يعلم شيئًا.
هكذا يُخرق حقه في الدفاع، لا لسبب إلا أن القانون أجاز التبليغ لمن يسكن معك، حتى إن لم يبلّغك.
●المادة 90 (الفقرة الأخيرة) الفقرة :“يمكن للمحكمة أن تبتّ في الطلبات رغم غياب الأطراف أو أحدهم، أو غياب ممثليهم، دون تعيين جلسة جديدة، إذا اعتبرت أن القضية جاهزة.”
تفسير:هذه الفقرة تخوّل للمحكمة أن تصدر حكمًا دون تأجيل أو إعادة استدعاء الأطراف، حتى في غيابهم أو غياب محاميهم. المحكمة الدستورية رأت أن هذا يمسّ حق الدفاع.
●الفصل 120 من الدستور يؤكد على وجوب تمكين الأطراف من الدفاع عن أنفسهم.
مثال :محامٍ تغيّب عن جلسة لأسباب طارئة، والقاضي رأى أن الملف “جاهز”، فحكم دون الاستماع للطرف الآخر.
هذا ليس عدلاً، بل محاكمة مبتورة من جانب الدفاع.
●المادة 339 (الفقرة الثانية)الفقرة:“يجوز للمحكمة رفض الطلبات أو الدفوع أو الملتمسات التي ترى أنها غير مؤسسة، دون تعليل.”
تفسير :تسمح هذه الفقرة برفض ملتمس أو دفع قانوني دون تعليل. المحكمة رأت أن هذا يتعارض مع مبدأ الشفافية، فكيف يدافع الطرف عن نفسه إذا لم يعرف سبب الرفض؟
●الفصل 125 من الدستور:“يجب أن تكون الأحكام القضائية معللة…”
مثال :شخص يطلب إيقاف تنفيذ حكم لأنه يضر بمصالحه. القاضي يرفض طلبه دون أن يشرح لماذا.
كيف سيستأنف؟
كيف سيعرف خطأه؟
العدالة لا تقوم على الصمت، بل على التبرير.
●المادة 288الفقرة:“إذا تعلق الحجز بوثيقة، تُقدّم للمحكمة للنظر فيها دون إعلام باقي الأطراف.”
تفسير:تسمح المادة بحجز وثيقة قضائية (مثل وصية أو عقد) وتقديمها مباشرة للمحكمة دون ضمانات إجرائية للطرف المتضرر. المحكمة رأت أن ذلك يمس مبدأ التواجه بين الخصوم ويُخل بالعدل.
●الفصل 120 والفصل 118 من الدستور: “حق الدفاع مكفول، وحق التقاضي مضمون لكل شخص.”
مثال :شخص يُفاجأ بأن وثيقة مهمة استُعملت ضده دون علمه أو تمكينه من الطعن فيها.
العدالة ليست هكذا.
●المادتان 408 و410 (الفقرة الأولى)الفقرة:“يمكن للوكيل العام للملك أو وزير العدل أن يطلبا الإحالة إلى محكمة النقض في حال وجود مصلحة عامة.”
تفسير :تسمح هذه المواد لوزير العدل (من السلطة التنفيذية) بالتدخل في سير الملفات وإحالتها لمحكمة النقض. المحكمة رأت أن ذلك يمسّ استقلال القضاء.
●الفصل 107 من الدستور:“السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.”
مثال :قضية تمسّ مسؤولًا سياسيًا تُحوّل لمحكمة النقض بقرار من وزير العدل!
هذا يُلغّم مبدأ الحياد القضائي.
●المادة 364 (الفقرة الأخيرة)الفقرة :“يجوز تسليم نسخ الأحكام أو محاضر الجلسات لأطراف غير الأطراف المباشرين، دون تحديد الشروط.”
تفسير :هذه الصياغة فضفاضة جدا، وتفتح الباب لاستعمال المعلومات القضائية لأغراض غير نزيهة، كالتشهير أو الابتزاز.
مخالفة لمبدأ تكافؤ الفرص وحماية الخصوصية، المنصوص عليه ضمنيًا في الدستور.
مثال :شخص يحصل على نسخة من محضر جلسة طلاق، وينشر تفاصيله للضغط أو الإحراج.
أين حماية الحياة الخاصة؟ أين حق الطرف الآخر؟
●المادة 107 (في علاقتها بحق الطعن الفقرة:“بعض القرارات القضائية لا تقبل الطعن، دون تحديد ما إذا كانت هذه الاستثناءات مشروعة.”
تفسير :المحكمة قالت إن عدم توضيح إمكانية الطعن في القرارات يمسّ حقًا جوهريًا من حقوق الإنسان.
●الفصل 118 من الدستور:“حق التقاضي مضمون لكل شخص.”
مثال :يصدر حكم إداري ضدك، ولا يمنحك القانون طريقًا للطعن.
هذا يجعل القرار نهائيًا حتى لو كان ظالمًا.
عندما يصبح الدستور درعًا للمواطن
هذا القرار الدستوري لم يُلغِ نصوصًا عبثًا، بل حمى المواطن من ثغرات كانت لتُستغل ضده دون أن يشعر.
لقد أعاد لكل متقاضٍ، مهما كانت قضيته صغيرة أو كبيرة، ضمانة أنه لن يُحكم عليه إلا بعلم، ولا يُرفض طلبه إلا بتعليل، ولا يُسلَب حقه إلا وفقًا للقانون.
إنه انتصارٌ للعدالة،
ليس في المحاكم وحدها،
بل في النصوص التي يُصاغ بها مصير الناس.