المسخ الرمزي للمدرسة: قراءة سوسيولوجية في إدماج الهيب هوب والبريكينغ في التربية البدنية بالمؤسسة التعليمية المغربية
هشام بوقشوش*|في خضم التحولات العميقة التي تعرفها المنظومة التعليمية المغربية، والتي تتسم في مجملها بالارتباك البنيوي والاختلالات التربوية والإدارية، تطفو على السطح مشاريع ظاهرها التجديد والحداثة، وباطنها تكريس للتيه الرمزي للمدرسة المغربية.
من بين هذه المشاريع، يبرز إدماج ” الهيب هوب والبريكينغ ” ضمن مادة التربية البدنية كتجسيد حي لعملية “تفريغ المدرسة من دورها التأطيري”، واستبداله بمحتويات استعراضية تنتمي إلى ثقافات معولمة غريبة عن السياق القيمي والاجتماعي المحلي.
إن تدريس الهيب هوب والبريكينغ، رغم ما يروج له من قدرة على “جذب التلاميذ” و”تحفيزهم”، يشكل – في عمقه – مسخا تربويا متعدد الأبعاد. فهو يعكس نزعة اختزالية للوظيفة التربوية، تركز على الجسد والحركة بدل الفكر والمعنى، وتُعلي من “التعبير الحركي الحر” على حساب “التربية البدنية التكوينية”. فهل يعاني التلميذ المغربي اليوم من فقر في تعبيراته الحركية، أم من فقر في آلياته الفكرية والمعرفية والمهاراتية التي تؤهله للاندماج في مجتمع مركب؟
1•تغريب المدرسة: عنف رمزي ناعم
المدرسة تمارس عنفًا رمزيًا حين تفرض نماذج ثقافية غريبة على المتعلمين، فتجعلهم “يندمجون” ظاهريًا في منظومة لا تعكس واقعهم المعيش. وتدريس الهيب هوب والبريكينغ هو أحد تمثلات هذا العنف، حيث يفرض على التلميذ الانخراط في حركات ونمط تعبيري ينتمي لسياق نشأ في أوساط أمريكية هامشية، يتميز بالاحتجاج على النظام الطبقي والعنصري، ولا ينسجم لا تاريخيا ولا سوسيولوجيا مع البيئة التربوية المغربية.في السياق المغربي، حيث تتعايش المدرسة مع قضايا الأمية، التسرب المدرسي، وغياب البنية التحتية الأساسية، يصبح إدراج هكذا أنشطة استعراضية نوعًا من “تصدير النموذج الاستهلاكي للمؤسسة التعليمية”، أي تحويلها إلى مسرح لثقافات العولمة، على حساب التربية الجادة، والانضباط الذاتي، والقيم الجماعية.
2•تمييع الوظيفة النفسية والتربوية للتربية البدنية
لطالما شكلت التربية البدنية رافدًا من روافد التربية المتكاملة، هدفها التوازن الجسدي والعقلي والنفسي، عبر ترسيخ قيم العمل الجماعي، الالتزام، والتهذيب. لكن حين تتحول إلى حصة لرقصات الهيب هوب ذات الحمولة الاستعراضية والفردانية، تُفرغ من معناها التربوي، وتُحول إلى أداة لتغذية النرجسية الثقافية، والتمركز حول الجسد كوسيلة تعبير وحيدة، لا كجزء من تكوين شمولي متزن. إن علم النفس التربوي يؤكد أن المراهق في سن التمدرس يعيش صراعا هوياتيا معقدا، يستدعي خطابا تربويا مقوما، لا مضمونا تعبيريا يكرس الغموض في التمثلات الذاتية والانفصال عن المحيط الاجتماعي والأسري.
3• تكريس اللامساواة الرمزية والمجالية
في بلد يعيش تفاوتًا مجاليًا صارخًا، فإن إدماج مثل هذه الأنشطة لا ينسجم مع واقع أغلب المؤسسات التعليمية في القرى والهوامش، التي تفتقد إلى قاعات رياضية، أدوات، وأطر مكونة. هذا المشروع، وإن رُوِّج له باسم “الانفتاح الثقافي”، يعمق – في الواقع – هوة اللامساواة بين المركز والهامش، بين المدرسة “النموذج” والمدرسة “المنسية”، ويكرس طبقية جديدة في الحق في “التمتع الرمزي” داخل المدرسة.
4•المدرسة تحت قبضة التفريغ القيمي
إن المدرسة، في الأصل، مؤسسة لإعادة إنتاج القيم المجتمعية، وترسيخها في وجدان الناشئة. لكن حين تستورد مضامين تعبيرية من ثقافات لا تشترك في القيم المرجعية مع المجتمع المغربي (الدين، الأسرة، الجماعة)، فإنها تفتح الباب لـ”تفريغ قيمي” ممنهج، يعوض الانضباط بالتحرر، والالتزام بالفردانية، ويحول التلميذ من فاعل اجتماعي إلى مستهلك ثقافي مستلب.
5•من التربية إلى التسليع
إن مشروع إدماج الهيب هوب والبريكينغ في المدرسة المغربية لا يمكن فصله عن المسار النيوليبرالي الذي حول المدرسة من فضاء للارتقاء الاجتماعي إلى فضاء للتطبيع مع أنماط استهلاكية رمزية. إنها تحويل للمؤسسة التعليمية إلى مختبر لـ”التجريب الهوياتي” على حساب الهوية الوطنية، والمواطنة المسؤولة، والعدالة المجالية.ما تحتاجه المدرسة المغربية اليوم ليس رقصا حركيا فارغا، بل مشروعا وطنيا شاملا يعيد للمدرسة دورها في بناء المواطن، وتأهيله نفسيا، معرفيا، ووجدانيا في انسجام مع متطلبات المجتمع وتحديات العصر.
*الباحث في علم الاجتماع: د. هشام بوقشوش