قمة ترامب وبوتن وما وراء أوكرانيا: ملامح صفقة كبرى تعاد بها هندسة النفوذ والخرائط
نحو “سياج نفوذ” لا “نهاية تاريخ”: العالم ينتقل من وعود العولمة المفتوحة إلى خرائط نفوذ متداخلة، تُدار عبر صفقات انتقائية و”تحالفات مرنة”.
عزيز الدروش|محلل و فاعل سياسي
تمهيد|صحيح أن الندوة الصحفية التي تلت لقاء الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين تمحورت – ظاهريًا – حول الحرب في أوكرانيا. لكن القراءة الباردة لسياق القوة ولمفردات الجغرافيا السياسية تقول إن أوكرانيا كانت “العنوان الجاذب” لا جوهر الاجتماع. لقاء بهذا الوزن، وبهذه التحضيرات والاحتياطات، لا ينعقد من أجل ملف واحد مهما كان ملتهبًا؛ بل يُستَخدم الملف الساخن بوصفه مدخلًا لمساومات أعرض: إعادة توزيع مناطق النفوذ، وترسيم قواعد اشتباك جديدة بين القوى الكبرى، وتحديث هندسة الأمن العالمي.
أطروحة المقال|أوكرانيا هي الذريعة، وليست القضية: الملف الذي يُسمع على الميكروفونات ليس دائمًا هو الملف الذي يُحسم وراء الأبواب المغلقة.
نحو “سياج نفوذ” لا “نهاية تاريخ”: العالم ينتقل من وعود العولمة المفتوحة إلى خرائط نفوذ متداخلة، تُدار عبر صفقات انتقائية و”تحالفات مرنة”.
آسيا والمحيط الهادئ هي المسرح المركزي: كل الطرق الاستراتيجية تكاد تؤدي إلى هناك، فيما تُعاد صياغة أدوار أوروبا وإفريقيا في الظل القريب لهذا التحول.
1●●● أوكرانيا: مفصلٌ لا محور
الحرب الأوكرانية كشفت حدود الردع، وحدود العقوبات، وحدود “القوة الناعمة” أيضًا. لكنها بالنسبة لواشنطن وموسكو كانت – ولا تزال – اختبار قواعد: أين يتوقف تمدد الناتو؟ كيف تُدار خطوط الطاقة والحبوب؟ ما سقف الحرب دون صدام مباشر؟
خلف هذا كله يجري تثبيت سوابق يمكن تعميمها لاحقًا: شرعنة مناطق عازلة، قبول “تجميد” نزاعات طويلة، والتمييز بين ما هو قابل للتنازل وما هو “خط أحمر”.
2●●● صفقة النفوذ: من هلسنكي إلى “ألاسكا”
إذا كانت قمة ترامب–بوتين قد فتحت بابًا لتفاهمات صامتة في أوروبا الشرقية، فإن “لقاء ألاسكا” بين واشنطن وبكين شكّل الإطار الذهني لتوازن جديد: اعتراف متبادل بتضارب المصالح مع تفاوض على مساحات تعايش مدروس.
النتيجة المرجحة ليست حربًا باردة صلبة، بل طبقات من الردع الانتقائي: تنافس حاد في التكنولوجيا وسلاسل التوريد، وتسويات موضعية في الطاقة والممرات البحرية، و”هدن” تكتيكية تُمدَّد ما دامت تعكس توازنًا عمليًا.
3●●● أوروبا: قوة اقتصادية بذراع أمنية قصيرة
ستكتشف أوروبا سريعًا أنها أقل حظًا مما تتخيل. لماذا؟
1. اعتماد أمني تاريخي على المظلة الأميركية يجعل قرار الحرب والسلم ليس أوروبيًا خالصًا.
2. فجوة صناعية-تكنولوجية في قطاعات حساسة (الرقائق، الذكاء الاصطناعي، الدفاع) تُضعف الاستقلالية الاستراتيجية
3. تعب المجتمع الأوروبي من كلفة الحروب والعقوبات والطاقة، ما يحد من قدرة الحكومات على تبني سياسات مواجهة طويلة النفس.
خلاصة هذا المحور أن أوروبا ستُدفَع إلى “إدارة التراجع بأقل الأضرار”: تعظيم الردع الدفاعي، وتفادي الانجرار إلى مواجهة مباشرة في آسيا، مع محاولات خجولة لبلورة عقيدة “الاستقلالية الاستراتيجية”.
4●●● إفريقيا: بين إعادة استعمار ناعمة ونافذة وكالة
إفريقيا تبدو – في عين كثيرين – الحلقة الأضعف. لكنها أيضًا جائزة التوازنات: معادن استراتيجية، طاقة شمسية ورياح، أسواق فتية، وممرات بحرية.
الخطر هو إعادة استعمار ناعمة: قروض مشروطة، قواعد لوجستية، اتفاقات موارد غير متكافئة. لكن الفرصة قائمة لبناء وكالة إفريقية عبر:
●تنويع الشركاء بدل الارتهان لطرف واحد.
●تجميع القوة التفاوضية على مستوى الأقاليم (سيدياو/س.إفريقيا/الكوميسا/اتحاد المغرب العربي إن أُنعش).
●توطين سلاسل القيمة في التعدين الأخضر (الليثيوم، الكوبالت، المنغنيز) بدل تصدير الخام.
من دون ذلك، ستدخل دول عديدة في مسار “تبادل امتيازات” لا يختلف كثيرًا عن منطق الامتيازات الاستعمارية القديمة وإن تغيرت الأعلام.
5●●● آسيا والمحيط الهادئ: قلب الصراع المقبل
توازنات التكنولوجيا والممرات البحرية تجعل المحيطين الهندي والهادئ مركز الثقل: تايوان، بحر الصين الجنوبي، مضيق ملقا، خطوط الكابلات، سلاسل الرقائق.
من منظور واشنطن، تقليص الانغماس العسكري في أوروبا يُحرر موارد للتموضع شرقًا؛ ومن منظور بكين، تأمين الجوار البحري شرطٌ لسلامة النمو. هنا تتقدم “التحالفات المصغرة” (AUKUS، QUAD، تفاهمات ثنائية دفاعية) على حساب المنظومات العريضة، وتُستخدم الأدوات الاقتصادية كسلاح: ضوابط تصدير، عقوبات انتقائية، حظر استثمارات، وإغراءات سوقية.
6 ●●● المنظمات الدولية: من منصات تعميم القواعد إلى ساحات توازن
مجلس الأمن، منظمة التجارة العالمية، مؤسسات بريتون وودز… كلها مرشحة لجرعة “إصلاح” لا تفضي بالضرورة إلى عدالة تمثيلية، بل إلى ترتيبات تشغيلية تُقلل الشلل وتُزاوج بين الشرعية القانونية وميزان القوة الفعلي.
سيظهر إلى جوارها نظام رديف من الأطر الموازية: توسيع تجمعات كالبريكس، بنوك تنمية بديلة، أسواق دفع وتسوية عابرة للدولار. الهدف ليس هدم النظام، بل تعدد قواعد اللعب بحسب الملف والجيلوجرافيا.
7●●● ماذا يعني هذا للدول المتوسطة والصغيرة؟
1. الحياد الذكي لا الحياد السلبي: مراكمة خيارات لا شعارات.
2. أمن اقتصادي قبل كل شيء: مخزون غذاء وطاقة، تنويع الموردين، تأمين البيانات والكابلات.
3. دبلوماسية الممرات: من يملك موقعًا في مضيق أو ميناء يملك ورقة تفاوض.
4. سيادة تكنولوجية تدريجية: تعليم، شراكات ترانزفير، تصنيع مكوّنات محلية في القطاعات الحرجة.
5. تكتل إقليمي: منفردًا أنت سوق صغير؛ مع الجوار تصبح لاعبًا.
8●●● ثلاثة سيناريوهات للسنوات المقبلة
السيناريو المرجعي (الأكثر ترجيحًا): تجميد النزاعات الكبرى مع اتساع “حروب الظل” الاقتصادية والتكنولوجية. أوروبا تعزّز دفاعها دون فطام كامل عن واشنطن؛ التمركز الأميركي شرقًا يتسارع؛ إفريقيا ساحة تنافس مكثف مع فرص لوكالات إقليمية ناجحة هنا وهناك.
سيناريو تصعيد مُدار: أزمات متكررة في الممرات البحرية (تايوان/البحر الأحمر/ملقا) تُبقي المخاطر مرتفعة لكن دون انزلاق لصدام مباشر بين الكبار. أسعار الطاقة والمواد الاستراتيجية أكثر تذبذبًا، ونوافذ التمويل أضيق.
سيناريو انفراج نسبي: صفقة تبادل ضمانات محدودة (أمنية وتجارية) بين واشنطن وموسكو وبكين تُخفف الاحتكاك وتعيد بعض الانسيابية لسلاسل التوريد، مقابل الاعتراف بحدود تمدد كل طرف في جواره الحيوي.
9●●● مؤشرات مبكرة يجب مراقبتها
●حجم ونوعية إعادة تموضع القوات الأميركية خارج أوروبا.
●خرائط الاستثمارات في الموانئ والممرات عبر إفريقيا والمتوسط والهندي-الهادئ.
●اتجاهات سياسة الرقائق والقيود التكنولوجية بين الغرب والصين.
●بنية التحالفات “المصغّرة” وعدد تمارينها وتكاملها.
●أجندات إصلاح مجلس الأمن والمؤسسات المالية: من يربح مقعدًا ومن يدفع الثمن؟
خاتمة: نهاية “الحلم الكوني” وبداية “اتفاقات الضرورة”
إذا كان الخطاب المعلن يضع أوكرانيا في القلب، فإن السياسة الواقعية ترسم خارطة أكبر: تقليص انخراطٍ أميركي في الجبهة الأوروبية مقابل تركيزٍ آسيوي، وترسيم دوائر نفوذ بحكم الأمر الواقع، وتطويع المنظمات الدولية لخدمة “إدارة الفوضى” لا إلغائها.
أوروبا ستكتشف هشاشتها الأمنية، وإفريقيا ستقف بين إعادة استعمار ناعمة وفرصة بناء وكالة سيادية، وآسيا ستظل مسرح الاختبار الحاسم. في هذا العالم المتعدد الطبقات، من يملك أوراق الموقع والموارد والقرار الوطني المرن يستطيع أن يفاوض على مكانه؛ ومن يكتفي بدور المتلقي سيُعاد تعريفه من الخارج.
بهذا المعنى، لم يكن لقاء القوتين فصلًا في حرب واحدة، بل ديباجة لصفقة طويلة تُكتب على فصول، وتُراجع على وقع الموانئ والممرات والرقائق… لا على وقع الخطب وحدها. هذه هي الحقيقة التي سنراها تتضح عامًا بعد عام: العالم لا يُقسم مرة واحدة، بل يُعاد توزيع أثقاله باستمرار، ومن لا يشارك في التوزيع يُوزَّع عليه.
●هذا كله بسبب التنين الصيني
من المستحيل بناء عالم عادل بدول ذات نزعة إستعمارية و إجرامية و داعمة لأنظمة فاسد و منظمات و مؤسسات ينخرها الفساد و الإستبداد و الظلم والحكرة وأشياء أخرى