التربية الدامجة في المغرب: تفكيك التفاوتات وبناء الإنصاف التربوي من منظور سوسيولوجي
هشام بوكشوش*|تعد التربية الدامجة من الرهانات الاستراتيجية الكبرى في سيرورات بناء العدالة التربوية والاجتماعية بالمجتمعات المعاصرة، لما تنطوي عليه من إمكانات لتجاوز الأنساق الإقصائية التي حكمت تنظيم المدرسة التقليدية، وبما تتيحه من فرص لإعادة تعريف شروط الانتماء المدرسي، ومبدأ المساواة في الولوج إلى المعرفة. وفي السياق المغربي، اكتسب هذا المفهوم زخما معتبرا منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لا سيما عقب صدور الرؤية الاستراتيجية 2015–2030، وتفعيل القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، بالإضافة إلى التزامات المغرب الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (2006).
غير أن هذا التحول على مستوى المرجعيات القانونية والسياسات العمومية، ورغم وجاهته، يظل منقوصا حين نقاربه من زاوية الفعالية الميدانية. ذلك أن المدرسة المغربية، كما تظهره الملاحظات السوسيولوجية والميدانية، ما تزال بعيدة عن تجسيد النموذج التشاركي والتعددي الذي تتطلبه التربية الدامجة. بل إن العديد من مؤسسات التعليم العمومي تعيد، بطرق رمزية ومؤسساتية، إنتاج أشكال من الإقصاء غير المعلن تجاه التلاميذ في وضعية إعاقة، في ظل استمرار تمثلات نمطية، وضعف البنيات الداعمة، وهشاشة التكوين التخصصي لدى الفاعلين التربويين.
إن قراءة هذه الوضعية من منظور سوسيولوجي تفترض الانطلاق من تصورات نظرية مثل تلك التي قدمها بيير بورديو، الذي رأى في النظام التربوي آلية لإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية، من خلال ما يسميه بـالعنف الرمزي، حيث يتم فرض نموذج معياري للنجاح والاندماج، يقصى منه كل من لا يتوافق مع هذا النموذج، سواء من حيث القدرات أو السلوكيات. وضمن المنطق ذاته، يوضح إرفينغ غوفمان، في عمله حول الوصمة، أن الأفراد الذين يتم تصنيفهم خارج الطبيعي أو المألوف يعانون من تمييز مضاعف: جسدي/نفسي، ومؤسساتي/اجتماعي، وهو ما يجعل الطفل في وضعية إعاقة عرضة لنظرة دونية أو تعاطف مشبع بالتمييز غير الواعي.
من هنا، لا تختزل التربية الدامجة في بعدها الإداري أو الإجرائي، بل يجب النظر إليها بوصفها سيرورة اجتماعية وثقافية تعبر عن تمثل المجتمع للإعاقة، وعن دينامية العلاقة بين الفرد والمدرسة، وبين الدولة والمواطنة. ويزداد تعقيد هذه السيرورة حين ننتقل إلى الفضاءات القروية والهامشية، حيث تتقاطع الإكراهات المادية مع ضعف التكوين، وهشاشة الوسائل الديداكتيكية، وغياب الوعي المجتمعي الكافي بحقوق التلميذ في وضعية إعاقة، فضلا عن تمثلات أسرية تقليدية ترى في الإعاقة حالة طارئة أو محنة أكثر من كونها وضعية حقوقية تستدعي الإنصاف والمواكبة.
وتعكس مظاهر مثل غياب التنسيق المؤسسي بين القطاعات المعنية (التعليم، الصحة، الحماية الاجتماعية، التكوين المهني)، وضعف التقييم التربوي متعدد الأبعاد لحاجيات الأطفال، وغياب المعينات البيداغوجية والتأطير النفسي، هشاشة المقاربة العمومية في التعاطي مع ملف التربية الدامجة، وتحولها، في كثير من الحالات، إلى شعارات دون مضمون حقيقي. وفي هذا السياق، تصبح المدرسة، في صيغتها الراهنة، مجالا غير مهيأ لتقبل الاختلاف بوصفه معيارا للغنى، وليست فضاء منفتحا على التنوع البشري والوجداني والمعرفي.
إن نجاح التربية الدامجة لا يمكن أن يُقاس فقط بعدد الأطفال المُدمجين في الأقسام الدراسية، بل يتطلب التوقف عند مؤشرات أكثر عمقا: مدى شعورهم بالانتماء، احترامهم لذاتهم، قدرتهم على التعلم والتعبير، وتحقيق الذات في فضاء يفترض أن يكون ديمقراطيا وتحرريا. لذلك، تستدعى الضرورة لإعادة بناء تصور نسقي متكامل للتربية الدامجة، يتجاوز المقاربات الإحسانية أو التقنية، ويؤمن بأن المدرسة ليست فقط فضاء لتلقين المعارف، بل لبناء الذات والمواطنة والاعتراف.
لترسيخ مفهوم المدرسة الدامجة، لا بد من تحول جذري في السياسات التربوية، يقوم على دمقرطة التكوين البيداغوجي، وتوسيع قاعدة الموارد الداعمة، وبناء منظومة تقييم مرنة متعددة الأبعاد، وتعزيز الوساطة المجتمعية والتواصلية بين المدرسة والأسرة والمجتمع المدني. كما يتطلب ذلك أيضا مقاربة ثقافية سوسيولوجية شاملة، تعيد بناء التمثلات الاجتماعية حول الإعاقة، وترسخ حق كل متعلم في بيئة تعليمية عادلة، منصفة، ومحفزة.فالتربية الدامجة ليست فقط حقا فرديا لفئة هشة، بل مدخل لإعادة تعريف العقد الاجتماعي التربوي، ومؤشر على مدى نضج المجتمع والدولة في دمج الهشاشة لا بوصفها عائقا، بل بوصفها رافعة للتحول، والاعتراف، والإنصاف.
*د. هشام بوقشوش/ باحث في علم الاجتماع