الصحافة بمهنية ورؤية إبداعية

سوسيولوجيا الانفصال السكني بعد الزواج: تفاعلات الانقطاع الأخوي وتحولات الرابط الأسري في المجتمع المغربي المعاصر

يظهر هذا التحول البنيوي في العلاقات العائلية حجم الأزمة التي تواجهها الأسرة المغربية، في ظل غياب مشروع مجتمعي يعيد الاعتبار لقيم التضامن والعلاقة. فوسائل التواصل الاجتماعي، رغم سهولة الاتصال، لم تعوض حرارة اللقاءات الفيزيقية، بل في حالات عديدة، ساهمت في ترسيخ النرجسية الاجتماعية والقطيعة الناعمة.

د. هشام بوقشوش | باحث في علم الاجتماع

لم تعد الروابط العائلية، ولاسيما الأخوية، تحافظ على متانتها السابقة في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفها المجتمع المغربي خلال العقود الأخيرة. ولعل من أبرز هذه التحولات، الانتقال من نمط العيش الجماعي داخل الأسرة الممتدة إلى نموذج الاستقلال بالسكن بعد الزواج، ما أفرز ديناميات جديدة في العلاقات العائلية، أعادت تشكيل الروابط والولاءات، وعمقت في أحيان كثيرة مظاهر القطيعة العاطفية والاجتماعية بين الإخوة والأقارب.

. من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية: تحولات البنية والعلاقات

في السياق التقليدي، كانت الأسرة المغربية تتسم بالتماسك القائم على العيش المشترك بين الأجيال، وتقاسم اليومي والمعيشي، ما يعزز من حضور التفاعل والتضامن الأخوي. غير أن التحولات الاقتصادية وبروز النزعة الفردانية، أسهمت في تفكك هذا النموذج، وتراجع الوظائف التكافلية التي كانت تضطلع بها الأسرة.

لقد أبرز تالكوت بارسونز في تحليله للأسرة الحديثة، كيف أن البنية النووية تنسجم مع متطلبات المجتمع الصناعي، لكنها تضعف من الأدوار الجماعية للأسرة، وتحصرها في التربية والاستهلاك، مع ما يترتب عن ذلك من عزلة اجتماعية وأزمات انتماء.

الزواج والاستقلال بالسكن: قطيعة أم تحوّل في الولاءات؟

يمثل الزواج نقطة مفصلية في حياة الأفراد، لا فقط من حيث الانتقال إلى أدوار أسرية جديدة، بل أيضا من حيث إعادة ترتيب دوائر الانتماء والولاء. فبمجرد الاستقلال بالسكن، يتحول الانشغال من الأسرة الأصلية إلى الأسرة الجديدة، وغالبا ما يعاد توزيع العلاقات بناء على الأولويات الجديدة، حيث يقدّم البيت الزوجي على بيت العائلة، وهو ما ينعكس على العلاقة بالأشقاء والشقيقات.

وفي هذا السياق، تتدخل عوامل متعددة تعمق هذا الانفصال، منها تأثير الزوج/الزوجة، وسعي كل طرف إلى ترسيم حدود الخصوصية، بل وأحيانا فرض نوع من القطيعة الصامتة مع أسر الإخوة. وهو ما يمكن فهمه من خلال تصور إرفينغ غوفمان حول إدارة الهوية، حيث يعاد تشكيل التفاعل الاجتماعي بناء على الوضع الاجتماعي الجديد الذي يفرض بعد الزواج.

التفاعلات والتقاطعات والتضادات: تعقد النسيج العائلي

لا يمكن اختزال العلاقات العائلية في ثنائية الاتصال أو القطيعة، بل هي نسق متشابك من التفاعلات والتقاطعات والتضادات. فمن جهة، قد يستمر التضامن الأخوي في بعض الحالات، خصوصا إذا توفرت قيم الثقة والتكافل، ومن جهة أخرى، تظهر احتكاكات ناتجة عن التفاوت الاقتصادي، أو الاختلاف في أنماط الحياة، أو النزاعات المرتبطة بالإرث أو ملكية السكن.

وتكشف هذه التقاطعات عن عمق التحول في الهياكل اللامرئية للسلطة العائلية، حيث تنتقل السيطرة من الأب أو الأخ الأكبر إلى منطق المصلحة الشخصية والتفرد، بما يجعل العلاقة الأخوية عرضة للهشاشة. وقد يكون التفاوت الطبقي بين الإخوة، بعد الاستقلال، عاملا من عوامل التوتر، حيث يؤدي الشعور بالتفوق أو التهميش إلى صدامات غير معلنة أو مواقف عدائية مقنعة.

انعكاسات القطيعة: من تآكل التضامن إلى فقدان رأس المال الرمزي

إن تفكك الروابط الأخوية لا يمر دون آثار اجتماعية ونفسية. إذ تُفضي هذه القطيعة إلى عزلة الأفراد، وتآكل التضامن العائلي، وخصوصا في أوقات الأزمات كالمرض أو الشيخوخة أو الفقد. كما يفقد الأفراد رأس مالهم الرمزي والاجتماعي، حسب تصور بيير بورديو، حيث لم تعد العلاقات العائلية موردا للاندماج أو الدعم، بل مصدرا للقلق أو للحياد السلبي.

ومن بين الفئات المتضررة من هذا الوضع، الأطفال الذين يحرمون من الامتداد العاطفي والاجتماعي لعلاقة الأعمام والعمات، إضافة إلى الوالدين المسنين الذين يواجهون شيخوختهم وسط انكماش دائرة الأبناء وتناقص زياراتهم وتفاعلهم.

رؤية نقدية: نحو إعادة بناء العلاقة الأسرية

يظهر هذا التحول البنيوي في العلاقات العائلية حجم الأزمة التي تواجهها الأسرة المغربية، في ظل غياب مشروع مجتمعي يعيد الاعتبار لقيم التضامن والعلاقة. فوسائل التواصل الاجتماعي، رغم سهولة الاتصال، لم تعوض حرارة اللقاءات الفيزيقية، بل في حالات عديدة، ساهمت في ترسيخ النرجسية الاجتماعية والقطيعة الناعمة.

ولا يمكن تحميل الفرد وحده مسؤولية هذا الانفصال، بل هو نتاج سياقات متعددة: من ضغط الاقتصاد، إلى هشاشة أنماط التنشئة، إلى غلبة قيم السوق على قيم القرابة. وفي هذا الإطار، يجب مساءلة المنظومة التربوية والدينية والسياسات الاجتماعية حول دورها في تعزيز ثقافة العلاقة داخل الأسرة، وتفكيك مسببات العزلة الأخوية.

تجسد العلاقات الأخوية بعد الاستقلال بالسكن مشهدا اجتماعيا معقدا، تتداخل فيه دوافع التحديث مع إكراهات الواقع. إن انقطاع هذه العلاقات لا يعلن فقط عن تآكل العاطفة، بل يكشف عن تحول عميق في بنية المجتمع، حيث تنتقل العائلة من فضاء للتكافل إلى مجرد شبكة علاقات ظرفية. لذلك، يبقى التحدي اليوم هو إعادة التفكير في سوسيولوجيا الأسرة، ليس فقط كواقع قائم، بل كمجال للصراع والرهان والممكن.

د. هشام بوقشوش / باحث في علم الاجتماع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.