شوف تيفي وغيتة عصفور وسؤال المهنية.. لغة الإشهار ولغة الأرقام والمتلقي… أين الخلل؟
الملك محمد السادس نصره الله، دعا في خطابه بمناسبة عيد العرش المجيد، لمحاولة إصلاح الأعطاب للانتقال إلى السرعة الواحدة: سرعة النضج والتقدم والازدهار والوعي، سرعة نؤكد فيها أن الوطن فوق كل اعتبار، مثلما قال ناصر الزفزافي بالأمس، وبالمناسبة، ما دامت شوف تيفي مرآة المجتمع وعنوانا للمهنية، لماذا لم تغطي جنازة أحمد الزفزافي؟
محمد الشنتوف| صحفي، مدير النشر، باحث ومستشار في الإعلام والتواصل وتدبير الأزمات
افتتاحية-الرباط| إن الحديث عن قضية الفنانة الشابة والمؤثرة غيتة عصفور، هو حديث عن ملف من ملفات عديدة “للتشهير”. المشكل ليس في شوف تيفي، وإنما في منظومة متكاملة توفر أرضية خصبة لبروز هذا النوع من الصحافة وتقديمه كنموذج للنجاح، وقد تابعنا “باستغراب شديد” كيف دعمت مؤسسات مهنية وعلى رأسها جريدة الصباح في افتتاحية كتبها الصحفي خالد الحري بعنوان “كلنا شوف تيفي”.
هذا الدفاع “خربق لينا المفاهيم” وجعلنا نعيد ترتيب الأفكار، ونطرح علامات استفهام كثيرة حول الدفاع عن مهنية إعلام التشهير وتخويف الناس، ومهاجمة المختلفين، وتصفية الحسابات عبر الإعلام، وغياب الحس النقدي الذي يمكن أن يساهم في تقدم إعلامنا وبلادنا، وهو أمر لا يمكن رفضه(في إطار حرية التعبير(، ولا يمكن قبوله(في إطار ضوابط وأخلاقيات المهنة)، لنطرح السؤال معا: هل قامت شوف تيفي بعمل مهني؟ هل لنا الحق في تبني قضية غيتة؟ هل قامت غيتة عصفور بما يفرض عليها ضرورة المراجعة الفنية والشخصية؟ هل قام المجتمع بما يجعله أيضا مدانا؟ محاولة للجواب في هذا المقال التحليلي لهذه الظاهرة المعقدة قانونيا ومهنيا والواضحة أخلاقيا.
بين المهني واللامهني
لا يمكن رفض ما قامت به شوف تيفي، لأنه عمل مهني في نهاية المطاف، ولكنه عمل مهني مرفوض، ما هذا التناقض؟ سنفهم ذلك فيما سيأتي. أولا، يجب رفض ما لا يبرر مهنيا ولا يبرر أخلاقيا لعدة أسباب، فمن نتائجه مثلا:
● غيتة عصفور :
تمر من أزمة نفسية حادة.
● غيتة عصفور تقول لكم:
دمرتم مسيرة فنان وصورة شعب… كفو.
● صديقة غيتة عصفور:
تفكر في الانتحار.
● سيمو لايف:
يبكي على المباشر بعدما أقحم في الموضوع وهو لا علاقة له به.
● تحقيق مزيد من الاحتقار للعمل الصحفي:
هل من الطبيعي أن تتلقى شوف تيفي كل الانتقادات الموضوعية وتكتفي بالتركيز على من “يشكرها” لا من ينتقدها؟
● تشويه صورة المرأة المغربية:
حتى لو كانت المذنبة المفترضة بريئة مما نسب إليها.
● خلق النقاش الذي يعيدنا للوراء:
خاصة في ظل عدم الاعتراف بالأخطاء واعتبار ما قامت به شوف تيفي مهنيً ورائع وجميل دون مراجعة ونقد موضوعي.
● تشويه السمعة:
قال لي احد الأصدقاء، يا محمد لماذا تدافع عن غيتة عصفور، هل تعلم انك تدافع عن الفساد؟ ، قال هذا الكلام بعدما إنتهت القصة، قبل يوم من كتابة هذا المقال،أتعلمون ما معنى هذا، معنى هذا ان هناك انطباع خطير رسخ في ذهن المتلقي، أن غيتة كانت في موقف فساد، لا في جلسة عمل،وبما انني اعرف ذلك الصديق،وأعرف أنه عاش تجربة علاقة رضائية وجنسية، أطرح عليه السؤال: ما محلك من الإعراب، حتى لو افترضنا أن غيتة كانت في مجلس فساد وهذا مستبعد، هل جميع من انتقدها بمن فيهم صديقي” ملائكة” صديقي أعطاني مثالا واضحا على نفاق الأغلبية، وحتى لو افترضنا انها أخطأت، من يحاسبها،هل نحن أم القانون والقضاء؟ بأي حق نشهر بها ونلومها على ذنبها بذنب أكبر؟ ” لي سكايري الله يعفو عليه… والقانون سيحاسبه إذا ضبط، وليس لنا الحق في محاسبة أحد، أما مؤسسات الإعلام فليس من أدوارها المحاسبة، بل هي تخبر وتثقف وتنبه، وتقوم بتحقيقات لكشف الفساد الحقيقي في المؤسسات،” السي ادريس شحتان بحكم دراسته لعلم النفس” يعرف جيدا ما معنى ما قلته هنا عن الانطباع الأول وعن عقلية المتلقي، وسنفصل في هذا الأمر.
سؤال المهنية؟
أؤكد لك أن ما قامت به شوف تيفي عمل مهني، قد يصدمك هذا التفسير بعد مقدمة النقد هاته، لكن لا تتسرع،، وصدقني، كمتخصص أكاديمي وصحفي مهني، أقول لك إن ما فعلته شوف تيفي له مبرراته المهنية التي لا يمكن التغاضي عنها، ولكنه في نفس الوقت، تجاوز المهني ليصبح غير مهني، ولهذا يحتاج لطرحه للنقاش في معاهد الصحافة وداخل المؤسسات، وعلى رأسها المجلس الوطني للصحافة. فصحافة “البوز” والتشهير هي توجه عالمي، وللأسف الشديد ولعدة أسباب يعتبره البعض توجها ناجحا، وهو كذلك إذا ربطنا بمسألة الإنتشار، والتأثير ” لا يهم كيف” المهم هو الانتشار.
المهنية ولغة الأرقام والإشهار
اعتبار أن ما تقوم به شوف تيفي ناجح لأنه يرتبط بالأساس بنموذج اقتصادي وبمنظومة الدعم العمومي من جهة و بالإشهار والإعلانات التي لا تهتم بالأخلاق وبالمهنية ولكن تهتم بالأرقام، والدليل هنا ما نشرته جريدة “كود” وافتخرت به شوف تيفي، وما دافع عنه الكثير من المهنيين بل والمؤسسات الصحفية. ربما كل هؤلاء يعرفون أن ما قامت به شوف تيفي مهني، ولكنهم لا يعترفون بأن هذه المهنية غير مهنية في نفس الوقت. فمثلا تذكرنا “كود” بأن شوف تيفي تحقق 25 مليار مشاهدة؟ إذا رفع القلم، والغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي هذا هو معيار المهنية: الأرقام. ولغة الأرقام ترتبط بلغة المال، ولغة المال هي من تتحكم حتى في التوجه التشريعي لقانون المجلس الوطني الجديد للصحافة. فوزارة التواصل قالت لنا إن من لديه رقم معاملات وحده من له الحق في الحديث، لا يهم تكوين الصحفي والخط التحريري وأخلاقيات المهنة، المهم هو الأرقام، المقاولات الصغيرة، عليها اصلا ان لا تتأس، الفقراء يدخلون الجنة كما قال عادل إمام،لكن ليس من حقهم الحديث، ولا التعبير ولا العمل في الصحافة،والمقاولات الصغيرة ما دامت تنتمي للفقراء، حسب معايير القانون الجديد، لا مجال لوجودها،وان وجدت، حتى وان كان اصحابها من ذوي الخبرة والكفاءة والتكوين والخط التحريري المحترم البعيد عن الاستفزاز والسب والتشهير، لا يهم، المهم هو الارقام.
تحدي تبني التوجه المهني و”سهولة مهام صحافة البوز”
هناك جهات إعلانية وإشهارية ومؤسسات مغربية في القطاعين العام الخاص، تدعم الصحافة الجادة والمهنية، في إطار شراكات شفافة وما يسمح به القانون، ولكن تبقى لغة الأرقام حاضرة. ولتحصل المؤسسة الصحفية المهنية على الأرقام تضطر لاستثمار جزء مهم من قيمة الإعلانات في حملات التسويق. هذا الجهد لا تحتاجه مؤسسات “صحافة البوز” لأن “البوز يقوم بالدور” ويرفع المشاهدات، حتى لو كان ذلك على حساب الحياة الشخصية للناس.
المؤسسات التي تتبنى خطا تحريريا بعيدا عن الأعراض والفضائح تتطلب مجهودا مضاعفا ليس فقط في مسألة تحقيق الانتشار، بل حتى في إنتاج ما تنتجه، وفي تكوين الموارد البشرية، والتدقيق مع من سيشتغل. فمثلا، لو كانت مغرب بريس تيفي تريد تحقيق الانتشار السريع لحققت ذلك في أقل من يومين، منذ تأسيس الجريدة. توصلنا بالعديد من طلبات العمل، بل والعمل المجاني، هناك من قال لنا: أريد الاعتماد والميكروفون، وسنرسل لكم مواد مباشرة كل يوم. كيف سيرسل لنا المواد وهو لا يتقاضى عليها أجرا؟ هل سيحمل هاتفه ويبحث عن الفضائح في الشوارع أم يقوم بفبركة القصص لإرسال المادة التي تحقق الانتشار؟ الله أعلم، لكننا رفضنا هذا التوجه واخترنا الطريق الأصعب، وصعوبة الطريق يفسرها هذا المقال بالضبط.
لا أقول إننا لا يجب أن نغطي المشاكل، ونقاطع صحافة القرب، لكن، أليس في صحافة القرب نماذج مشرفة؟ ثم كيف نعالج ما له علاقة بالطابوهات؟ هل نعالجه معالجة مبنية على الإثارة والنبش في الحياة الشخصية للأفراد، أم نناقش الظواهر ونقدم هذه النماذج ليستفيد منها المجتمع؟ مجرد أسئلة لمن يهمه الأمر.
شوف تيفي مرآة المجتمع وصوت الشعب
ناقشت هذا الموضوع مع أحد الصحفيين الكبار الذي عاش تجربة كبيرة بإحدى المؤسسات الرسمية الكبرى في المغرب، وقال لي: “هل مجتمعنا فقط مجتمع الجريمة والفضائح والشباب المنحرف…” وأنا أتفق معه، هل هذا هو المجتمع المغربي بحق؟ هل هذا هو المجتمع الذي أفرزه العهد الجديد للملك محمد السادس نصره الله؟ نعم، هذا نموذج عن مجتمع “السرعتين”، ولكن الملك محمد السادس نصره الله، دعا في خطابه بمناسبة عيد العرش المجيد، لمحاولة إصلاح الأعطاب للانتقال إلى السرعة الواحدة: سرعة النضج والتقدم والازدهار والوعي، سرعة نؤكد فيها أن الوطن فوق كل اعتبار، مثلما قال ناصر الزفزافي بالأمس، وبالمناسبة، ما دامت شوف تيفي مرآة المجتمع وصوت الشعب وعنوانا للمهنية، لماذا لم تغطي جنازة أحمد الزفزافي؟
ثم أين هو مجتمع الدكاترة والأطباء والشباب الإيجابي؟ السي إدريس شحتان، وأنت دارس لعلم النفس، وقد تحدث أستاذنا عبد الكريم بلحاج عنك( حسب رواية زميل وصديق في العمل وعلم الاجتماع) يوما ما بشكل إيجابي ووصفك كونك كنت طالبا ذكيا، ألا تطرح هذه الأسئلة حول تجربتك؟ وهل ستنشر هذا النقد البناء أم ستكتفي بنشر من يشكر تجربتك فقط؟ .
وفي باب الشكر، لا بد أن أقول، وبحكم دراستي ليس فقط للتواصل والصحافة وعلم النفس، بل لعلم الاجتماع كذلك وحصولي على إجازتين في التخصصين، وماستر، ودكتوراه في الإعلام والتواصل على الابواب، فعلا شوف تيفي تعطينا فرصة أحيانا للتعرف على المجتمع كما هو من زوايا معينة، ولكن “ا السي إدريس”، الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. وهنا جاز لنا أن نطرح السؤال: هل تخدم شوف تيفي بخطها التحريري، “وهي حرة فيه” وبوضوح شحتان “الذي يحترم عليه”، هل تخدم مغرب 2030؟ مغرب السرعة المتقدمة التي تحدث عنها الملك محمد السادس في أكثر من خطاب.
شوف تيفي ومسألة الخوف من الصحافة
من أغرب المقاطع التي شاهدتها تفاعلا مع أزمة غيتة، مقطع للفنانة نرجس الحلاق تقول في مقدمته: “وخا كلشي كايخاف من شوف تيفي”، هل هدفنا كصحافة أن يخاف منا الناس أم ليحترمونا، وليقدروا عملنا المهني؟ ما هذا العبث؟ هل عليّ أن أخاف من زميلي إدريس شحتان ومن بعض الأصدقاء “الزملاء” بعد كتابة هذا المقال؟ هل علي أن أكتب مقالا يمدح إدريس شحتان وتجربة شوف تيفي لأكون عند حسن الظن؟، شخصيا، يهمني الاحترام وليس الخوف، ونعتمد غي عملنا على هذا، مؤخرا قال لي صديق من الأصدقاء” الشنتوف، وخا ماعنديش معاه ولكن أحترمه”، هذا هو الهدف، ليس ضروريا أن تحبني او تخاف مني، المهم أن تحترمني حتى لو كنت تكرهني.
صحافة “البوز” ومسؤولية المتلقي
من خلال تجربتي، وبالنظر لطبيعة المتلقي المغربي، ولدراسة مستمرة أقوم بها لفهم هذا المتلقي، أستطيع القول إننا نتوفر على بيئة حاضنة للتشهير، وحاضنة للتفاهة، وحاضنة للعبث بمختلف أشكاله. بل لاحظت أن هناك تقسيم محدد للمتلقي المغربي:
المتلقي المثقف المسموم:
هذا المتلقي لا يتابع نقاشا جادا، لا يتفاعل مع مقال جاد، لا يشجع تجربة جادة، لكنه ينتقد كل شيء، وتجده في شاشة التلفاز العمومي يحاضر في الموضوع، لكن سلوكياته تكشف عن معدن شرير خبيث سنفسره فيما سيأتي في هذا المقال.
المتلقي “الصياد”:
من يبحث عن أخطاء الصحيفة، فتجد أول من يسارع للتصحيح، وهذا جيد، لكنه لا يصحح بنية حسنة، بل بنية خسيسة هدفها رفع الشعار العبثي: “ما بقاتش الصحافة، شوف الصحافة كاتغلط، شوف الصحافة ما ضابطاش معلوماتها”. وقد قمت بتجارب “تعمدت فيها إدراج خطأ غير مؤثر”، كلها أدت لنفس النتيجة: هذا المتلقي الذي يحمل القلم الأحمر لا يشجع المجهودات الجادة لنفس المنبر.
المتلقي المشكك في أي عمل صحفي:
الخطير في الأمر أنني لاحظت أن المتلقي لا يهتم بالخبر الصحيح والموثوق، ولا يهتم بمجهود التحقق من الأخبار الزائفة أو بالتحقيق الصحفي إلا إذا كانت نتائجه تتماشى مع ما يريد أن يقرأ.
المتلقي السوداوي الانتقامي:
يبحث في “الخبر” سواء كان صحيحا أو إشاعة عن الانتقام من المؤسسات أو الأشخاص، وهو تمرين قمنا به في جريدتنا “مغرب بريس تيفي”، أي أنه يبحث في الخبر الموثوق عن ما يرضي عقده النفسية الانتقامية، أما من الصحيفة أو الصحافة أو المؤسسات. فبدل أن يشكر الصحيفة على مجهودها، يطرح السؤال بكل حقارة: “شحال عطاوكم”.
المتلقي الباحث عن الإشاعة:
الأخطر من ذلك، أن المتلقي تحس وكأنه يتلذذ بالإشاعات ويستمتع بها، ورغم بروز مؤشرات أن ذلك الخبر عبارة عن إشاعة، يستمر في التفاعل معها، دون اهتمام بالضرر الذي سيلحق بأصحابها سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات، بل ويحولها لفرصة للضحك والسخرية والاستهتار بمشاعر الناس، أو للانتقام من المؤسسات. وفي هذا الإطار قمنا بالتحقق من عدة أخبار، وآخرها خبر: “تحقق: وزارة التربية والتعليم تنفي إشاعات حول مغادرة مدير أكاديمية بني ملال خنيفرة مهامه”. ولاحظت أن من تفاعل مع الإشاعة أكثر ممن تفاعل مع الحقيقة. الإشاعة كانت تقول إن مدير الأكاديمية تخلى عن مهامه وسافر، والحقيقة التي حصلنا عليها بناء على عمل مهني وتواصلي مباشر مع الوزارة تؤكد أن هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة. لو كنا لا نفكر بطريقة مهنية، كنا سنركز على الإشاعة ونضخمها “في إطار عمل مهني لا غبار عليه”، وإذا “عندنا شي حساب مع الوزارة نصفيه… فهذه فرصة”، ولكن هذا عبث. الوزارة مؤسسة من مؤسسات الوطن، ومهما اختلفنا مع من يسيرها فهذا لا يلغي قاعدة ضرورة احترام المؤسسات، والمؤسسات لم تحترم في موضوع غيتة عصفور، لم تحترم لا النيابة العامة ولا القضاء، ولم ننتظر، كان استاذنا حيداس في المعهد العالي للإعلام والاتصال، وبعبارته الشهيرة ” جاز لنا أن نفعل ونفعل ” عندما يصل لقرينة البرلءة يقول” لا يجوز لنا خرقها ابدا”.
شوف تيفي وسؤال المهنية
لا يمكن قبول توجه شوف تيفي، “وهي طبعا حرة في خطها التحريري”، أنا لا أتدخل في عمل الزملاء ولا أعلق عليه، لكن من حقي كأكاديمي قبل أ أكون صحفيا، أن أحلل أي عمل وأنتقده وأقيمه، مثلما للآخرين الحق في تقييم تجربتي بشكل موضوعي وأخلاقي. عمل شوف تيفي، وإن كان مهنيا في جانب حسب مؤشرات منطقية، وحسب ما قاله إدريس شحتان مدير شوف تيفي تفاعلا مع قضية غيتة، إلا أن “السي إدريس” يعرف أكثر مني أن هناك معايير مهنية أخرى تم خرقها في تناول الموضوع، لأن الأمر يتعلق هنا بالحياة الخاصة، ونتذكر ما جاء عن الحياة الخاصة في قوانين الصحافة وفي الدستور، ويتعلق الأمر كذلك بأخلاقيات المهنة وواجبات الإعلام تجاه المجتمع، ونتذكر ما قاله الملك محمد السادس نصره الله عن هذا الأمر في المناظرة الوطنية للإعلام.
حيل وثغرات الصحافة وثغرات المحاماة
يعني ذلك أن الصحفي والمؤسسة الصحفية، وهذه المهنة لديها أسرار ومفاتيح وحيل وثغرات، تشبه حيل وثغرات المحاماة إلى حد ما. فالمحامي يمكن أن يدافع عن شخص مذنب وهو يعرف أنه مذنب، لكن دوره يحتم عليه البحث في القوانين عن الثغرات وعن دفوعات قوية لضمان براءة موكله حتى لو كان لا يستحق تلك البراءة. طبعا المحامي “الخبزي” يمكن أن يدافع عن أي مجرم ما دام يدفع، والمحامي الحقوقي لن يفعل ذلك، وقد ينسحب من الملف أو لا يقبله لمجرد تأكده من إجرام الموكل. وهكذا يمكن للصحفي وللمؤسسة الصحفية أن تختار من تشاء، وتبحث في بعض المعطيات والمصادر، وتبدأ في التخطيط “بمهنية-غير مهنية” لتختار من تختار، وتقول لك في النهاية: “أنا أقوم بعمل مهني”، نعم هذا صحيح، لكن المتخصصين يعرفون أنه عمل مهني-غير مهني في نفس الوقت، ودون أن تكون متخصصا، ستعرف أن ما يتعارض مع الأخلاق والقيم لا بد أن يتعارض مع المهنية مهما كان مهنيا في شكله وطريقة عرضه.
القاضي مثلا قد يعرف أن المجرم مجرم، وأن المحامي يستعمل ثغرات القانون للحصول على البراءة، لكنه إذا اقتنع بدفوعاته القانونية سيحكم بالبراءة. هل المحامي مهني؟ نعم، لكنه غير مهني في نفس الوقت. وربما هذا يجعلنا نوجه دعوة لأصدقائي في مهنة المحاماة بصفة خاصة: في مثل هذه الحالات، ألا تطرحون السؤال على أنفسكم: ما الجدوى من المحاماة كمهنة حقوقية، يمكن أن تتحول لوسيلة لهدر الحقوق؟ هذا الموضوع سنعود له لاحقا لعدة اعتبارات وأسباب وقصص.
قضية غيتة عصفور والسؤال المهني والأخلاقي
كل هذه المعطيات تصب في قضية الفنانة غيتة عصفور، ولهذا اعتبرتها قضيتنا جميعا:
كصحافة-بين الأخلاقيات والنموذج الاقتصادي:
جاز لنا أن نطرح السؤال هنا حول كيفية الرفع من المشاهدات لضمان استقرار النموذج الاقتصادي دون المس بحياة الناس والبحث عن الفضائح؟ كيف؟ ربما مؤسسات مثل هسبريس والعمق ومدار والصحيفة وتيلكيل عربي وغيرها تقدم نموذجا يستحق الاحترام في هذا الإطار.
كمؤسسات إشهار:
على هذه المؤسسات عدم الاعتماد على لغة الأرقام لوحدها، لأنه من المفترض أن تعرف أن الأرقام وكما أقول لبعضهم في اجتماعات مهنية: “الحاجة اللي بغيتها توصل را غاتوصل”. نحن في زمن رقمي، ومنظومة تجارية عملاقة، ادفع المال وستحصل على ما تريد، ولهذا لا بد أن تكون معايير المهنية والدقة عنصرًا من عناصر الحسم وليس فقط الأرقام.
كمتلقي خاص:
كل مواطن رزقه الله بالعقل، مهما كان مستواه المعرفي والدراسي، عليه أن يفكر ويتأمل، ويطهر نفسه الخبيثة من مكامن الشر التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء وتحدث عنها الدين. شخصيا أومن بأن الإنسان شرير بطبعه، وفي حياته من ضمن ما يجب أن يكافح من أجله هو التخلص من ذلك الشر، ليتخلص من النميمة مثلا والحسد والرغبة في التنكيل بالآخر.
كمؤسسات ومنظومة قانونية:
أعتبر وأقول دائما إن مشكلتنا ليست قانونية أو مؤسساتية في المغرب. فالمغرب استطاع أن يسن منظومة قوانين متقدمة في مختلف المجالات، ومنها مثلا مجال الأسرة. ولكن هل موضوع الأسرة بصفة خاصة مرتبط بالقانون وبالوزير وهبي وغيره من وزراء العدل بالمغرب على مر التاريخ، أم مرتبط بوعي مجتمعي؟
إن الإشكال هو إشكال سلوكي وأخلاقي، يتلاعب بالقوانين وبالضوابط وبالمعايير حسب ما يناسبه، يشبه هذا الأمر ما نفعله مع الدين والتدين. فهناك من لا يأخذ من الدين إلا ما يناسبه، المرأة ترفض التعدد لأنه لا يناسبها، والرجل يرفض النفقة بعد الطلاق لأنه لا يناسبه، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي مثلا يدافعون عن قيم الدين والمجتمع “بالتشهير والسب والشتم ولعن المختلفين عنهم”. وهذه أمثلة فقط. هذه المؤسسات وهذا الوطن لا يحتاج فقط إلا للإنسان بمعناه الإيجابي المحب للخير وليس من يبرر بشره شرا آخر.
كمجتمع:
وهنا سأعطي مثالا آخر. هناك من تحدث ورغم أن غيتة توضح أنها لا علاقة لها بما نسب إليها، تعمد أن يتمسك بخيط “النجا” ليحافظ على مواقفه الشريرة، فيدخل من باب الدين ليخرق ضوابط الدين نفسه، يقول لك إن دخولها لبيت آخر في عشاء عمل هو الذنب الأكبر. أولا، هناك ثلاث أطراف، وهذا يبعد شبهة وجود طرف ثالث هو الشيطان، الذي يحل ضيفا على الرجال والنساء في لحظات الخلوة. هذا صحيح وممكن جدا، ولا يمكن أن ننفيه بمبررات حداثية. الرجل قد ينجذب للمرأة أو العكس في الشارع العام وفي العمل، فما بالك إن لا ينجدب لها في غرفة مغلقة؟ هذا علم ومنطق لا يمكن التلاعب به. إنما منطقيًا، هذا الأمر مرتبط بقناعات معينة، وبتربية معينة، وموضوع “الاختلاف”، والاختلاف هنا يعبر عن تنوع وتركيب واضح في المجتمع المغربي، تحدث عنه السوسيولوجي بول باسكون قبل عقود، وطبعا لأننا لا نهتم بالعلم، ننساق لتفسيرات “الحس المشترك أو المعرفة المشتركة العامة” الجاهلة في كثير من الأحيان، التي تستند إلى التفسير الفردي وليس للتفسير العلمي، بل وهناك من يعتبر أن تفسيره الفردي قرآن منزل، وما تقوله أنت، ما دمت تختلف معه، مجرد هراء.
هناك من يعتبر أن مثل هذه اللقاءات عادية في إطار العمل بمبررات حداثية، وهناك من يعتبر ذلك ذنبا عظيما بمبررات دينية، ولا يمكن لأي طرف أن يمنع الآخر من حقه في الإيمان بما يؤمن به. وعليه، فإن استعمال هذا المعطى لمهاجمة غيتة، يظهر مرة أخرى تلك النية السيئة في مواصلة التنكيل بها لسبب أو لآخر، ويؤكد أننا مجتمع لا يؤمن بالاختلاف ولا بالتواصل، رغم أن هابرماس عاش حياته فقط ليعلمنا كيف نتواصل، ورغم أن الدين الإسلامي هو أحد اعظم نماذج التواصل، ورغم أم القيم الكونية هي قيم تواصلية، ألا يمكن أن نناقش ما نختلف حوله، ويظل اختلافنا على ما هو عليه في النهاية؟ وننهي النقاش مع احترامنا لبعضنا؟ الجواب الذي تخبرني به مؤشرات دالة كثيرة هو: هذا مجرد حلم يا محمد.
المسؤولية الفنية الفردية لغيتة عصفور
تتحمل غيتة عصفور جزءا من مسؤولية ما حدث لها، ليس في تلك الليلة، بل ما سبقها، وليس ما يرتبط بشوف تيفي، ولكن ما يرتبط بصفحات أخرى. فغيتة كانت، وبصفتها الفنية، للأسف، تقوم بإنتاج مقاطع تحرض فيها النساء على الرجال، مثلا هناك مقطع عن “تعلم كيف تخطف الأزواج من زوجاتهن بالمكياج”، وهناك مقطع حول “انعدام الثقة في الرجل”.
هذا المقطع الأخير توصلت به، ولأنه مستفز، فكرت في نشره، ولكنني تراجعت بعد إعادة التفكير، وانتظرت انتهاء المرحلة الأولى من التحقيق، احتراما لقاعدة مهنية تسمى “قرينة البراءة”، ولأنها في ظرفية صعبة وأخلاقيًا لا يجوز استغلال ظروفها الصعبة للانتقام منها أو لمحاسبتها على خطأ ارتكبته في عملها الفني.
غيتة عصفور تعرف أن للفن أدوار مهمة، وتعرف أننا في مجتمع أصلاً نعاني فيه من صراعات كبيرة بين الرجل والمرأة، ومثل هذه المقاطع تعمق الأزمة. ومثلما ننتقد الإعلام ونطالبه بتحمل مسؤوليته، فالأمر نفسه يرتبط بالفنان والرياضي والأستاذ والطبيب والمتلقي. لم ننشر تلك المقاطع المستفزة، رغم أنها كانت ستحقق مشاهدات عالية بلا شك، لأن الجميع كان سيسب غيتة، والمشاهدات سترتفع وسنربح بعض الاشتراكات الجديدة، وربما بعض المال، ولكننا فضلنا احترام أخلاقيات المهنة أولا، والأخلاق الإنسانية، ومصلحة الوطن التي هي فوق كل اعتبار.
المسؤولية بين الحق والواجب
ختاما، إنها مسؤولية جماعية، ومفهوم المسؤولية مقرون بمفهوم الواجب هنا. عدم الحصول على حق لا يبرر عدم الالتزام بالواجب. حقك أن تكون كما تريد وأن تعامل وفق ما يمنحه لك فضاء الحقوق، لكن واجبك أن تقوم بواجبك حفظا لحقوق الآخرين.
إذا عانيت في طفولتك وشبابك، واجبك أن تتعامل مع أطفالك برفق. وإذا لم تحصل على تلك المعلومة من فرد أو مؤسسة، وهذا حقك الدستوري، هل يعني ذلك أن ننتقم منها ولو عن طريق التلفيق والكذب؟
الواجب يقول هنا إن المؤسسة الصحفية يجب أن تخرج أسلحتها المهنية للرد. أنا مع الانتقام ممن يؤذينا أو يمنعنا من الحصول على حقنا، ولكن بطرق قانونية ومهنية: أخبر الناس أن هذه المؤسسة تمنعك من حقك، ودعها تنام في العسل وتعتقد أنها منتصرة بتجاهلها لك، ثم وجه بوصلتك وبوصلة فريقك بشكل عام نحو تلك المؤسسة للقيام بتحقيقات صحفية للإطاحة بمن لا يحترمون الحق، ويستغلون السلطة، ويخلون بالواجب.
هذه، مثلا، إحدى النقاط الرئيسية التي نعتمد عليها في فلسفة اشتغالنا المهنية: افعل معي ما تشاء، وقد تنساني، ولكن تأكد أنني وما دمت حيا فسأعود للنيش في ملفاتك، حتى أصل ويصل فريقي لما يمكن أن يدينك مهنيا، وتأكد حينها أنني لن أرحمك، شاء من تكن، ومهما كانت النتائج. وهذا ينتمي مهنيا للصحافة “المتريتة” التي لا تنشر من أجل السبق الصحفي ولكن من أجل الحقيقة، وطبعا مع الحفاظ على توازنات كثيرة على عدة مستويات تتداخل فيها أمور كثيرة، تفرض نوعا من الدبلوماسية في اتجاه معين والصرامة في اتجاه آخر.
تفاعلي مع غيتة هو نموذج لما أقول: أتفهم حالتها التي لا تقبل أن نضيف جرحا على جرح، ولكن تفرض أيضا أن ننبهها، وننبه أنفسنا ومن يقرأ مقالاتنا لأمور قد تهمنا جميعا.
والله أعلم
وللحديث بقية.