تهافت القطيع: قراءة في العقل الجمعي المغربي.. مهدي عامري يكتب
ليست السلوكات التي رافقت قرار تأجيل ذبح الأضاحي مجرّد ردود فعل ظرفية أو تعبيرات شخصية عن الحاجة أو الرغبة، بل هي تجلٍّ واضح لنمط من التفكير ما يزال يحكم العقل الجمعي المغربي: عقل يعيش تحت سطوة الغريزة، ويتحرك بمنطق العادة لا بمنطق المصلحة الوطنية، ويخضع للمقدّس حين يوافق هواه، ويتجاوزه متى اصطدم بمصالحه اللحظية.
إن ما رأيته من تسابق على شراء الأضاحي خلسةً، بعد القرار الملكي الصادر عن أعلى سلطة في البلاد، لا يمكن تفسيره فقط بالأنانية أو التمرّد، بل هو انعكاس لمفارقة بنيوية في الوعي المغربي بين الانتماء اللفظي للوطن والانفصال العملي عنه. فحين يُطلب من المواطن الامتناع عن الذبح حفاظًا على الثروة الحيوانية، تتقدّم الغريزة على العقل، والمصلحة الفردية على المصلحة العامة، وتنهار قيم الطاعة والمواطنة في أول اختبار.
لقد أثبت هذا المشهد، بكل أبعاده، أن هناك هوّة عميقة بين الخطاب الديني كما تُروّجه بعض الفئات، وبين روحه الحقيقية القائمة على فقه المقاصد والمصلحة العامة. فالمواطن الذي يحرّف النص الديني ليبرّر العصيان لا يمارس اجتهادًا، بل يمارس إيديولوجيا مقنّعة، يُخفي بها رغبته في إشباع حاجته ولو على حساب الدولة والمجتمع.
من هنا تبرز الأزمة الحقيقية: و هي لا تتجلى في القرار، ولا في الظرف، بل في بنية ذهنية تحتاج إلى تفكيك ونقد. لقد فشل هؤلاء في إدراك أن الدولة الحديثة تُبنى على التعاقد، وأن طاعة وليّ الأمر في ما لا يخالف الشريعة هي جزء من هذا التعاقد. فكيف نرجو من عقل لم يتحرر من التقليد أن يرقى إلى مستوى المسؤولية الوطنية؟ وكيف نعلّق الآمال على مجتمع لم يغادر بعد فضاء “الانفعال” ليلج مجال “العقلنة”؟
إن ما يحدث ليس مجرّد سلوك فردي معزول، بل هو مؤشّر على عقل تقليدي ما يزال يربط الوطنية بالمناسبات، والإيمان بالطقوس، والانتماء بالشعارات، في حين أن المواطنة ـ في جوهرها ـ التزام بالقيم العليا، و ليست بتاتا استجابة للشهوة أو الخوف أو العادة.
ولذلك، فإنّ الوطن ـ في هذا السياق ـ ليس ترابًا فقط، بل هو كتلة من الوعي. ومن خان هذا الوعي، فقد خان الوطن، ولو أقسم ألف مرّة بالولاء.
وإذ أقول هذا الكلام، فإنني لا أنطلق من الغضب اللحظي، بل من قناعة العقلانية مفادها أن بناء المجتمع الحديث لا يتم إلا بإعادة بناء العقل الأخلاقي، وتحقيق القطيعة المعرفية مع أنماط التفكير اللاعقلاني التي تبرّر الخيانة باسم الدين، والأنانية باسم الحاجة، والجموح باسم الحرية.
لقد خسرنا، بهذا التهافت، فرصة لبناء تضامن وطني حقيقي. وآن الأوان لنقولها بوضوح: لا مستقبل لوطن يتقدّم فيه القطيع على الفكرة، والغريزة على العقل، والأنانية على الواجب.
اللهم إنّي قد بلّغت. اللهم فاشهد.